الرئيسية

صناعة الوعي في السرديات المبكرة لحسن النعمي


     د. إبراهيم عبدالعزيز زيدأستاذ النقد والبلاغة بجامعة القصيم[email protected]

-1-

   صناعة الوعي : يُشكل البناءُ الاجتماعي وعيَ الإنسان يؤثر فِيهِ ويتأثر بِهِ. وتكاد تكون صور التأثير لَهَا الغلبة فِي المراحل الأُوْلَى من حياة الإنسان الَّذِي يجد نفسه محاطا بظروف اجتماعية ليس لَهُ فِيهَا اختيار ، ثُمَّ يعمل عَلَى السير فِيهَا أَوْ التحرر مِنْهَا وِفْقًا لمكتسباته الخَاصَّة فِي الحياة ، وكلما ازدادت هَذِهِ المكتسبات – بالموافقة أَوْ المخالفة – تحول التأثير الَّذِي يمارسه البناء الاجتماعي عَلَى الوعي  إِلَى نوع من التفاعل الإيجابي.

   ويرى علماء الاجتماع أن ذاكرة الإنسان فِي استدعائها لأحداث الماضي تنهض بوظيفة أساسية هِيَ الكشف عَنْ صور من البناء الاجتماعي فِي سياق زمني محدد يسمح للإنسان باكتساب مَا يسمى بالحس الإنساني للزمن ؛ أي إقامة علاقة بَيْنَ الذاكرة والزمن والهوية.(انظر/ الذاكرة الحضارية والذاكرة الإنسانية ، يان أسمن . ص238-239)

  وتستبقي الذاكرة – فِي العادة – المخزون الَّذِي يمثل خبرة الإنسان الأُوْلَى فِي التَعَامُل مَعَ الآخرين ، وَهُوَ مخزون قَد يبقى لغرابته أَوْ لإثارته الدهشة ، ويُستدعى لأحداث مشابهة أَوْ مفارقة لواقع معيش. وَقَد أدرك كتّاب السرد السيري بِكُلِّ أشكاله هَذِهِ الوظيفة الَّتِي تؤديها الذاكرة فجعلوها باب ولوج للتعبير عَنْ ذواتهم . 

   وَإِذَا كنا نربط بَيْنَ (صناعة الوعي) و(السرديات المبكرة) فإننا ندرك أن كلمة الصناعة تنصرف إِلَى الجوانب المادية ؛ أي قدرة الصانع عَلَى أن يشكل المادة لكننا ننتقل بِهَا هُنَا – فِي المُسْتَوَى المجازي –إِلَى الكيفية الَّتِي يسيطر بِهَا المبدع عَلَى مصادر الوعي المبكر  وكيف أعاد تشكيلها بعد تجاوزها ؟ وهذا هُوَ الإشكال الَّذِي تبحث عَنْ إجابته هَذِهِ الورقة فِي السرد السيري.

   وَقَد تباينت اتجاهات الكتاب فِي السرد السيري؛ فمنهم من اصطنع  الكتابة الطولية الَّتِي تربط بَيْنَ ماض وحاضر فِي شكل متنام يكتمل فِي كتاب ، وَقَد يتضخم الكتاب إِلَى عدة أجزاء ، وتنشط الذاكرة فِي قسمه الأول ثُمَّ تخفت أَوْ تتلاشى فِي الأقسام الأخرى . ومنهم من آثر الحديث الجزئي الكاشف عَنْ شذرات سيرية ، واتجهت أغلب هَذِهِ الشذرات إِلَى  فترة التكوين سَوَاء أكان هَذَا الحديث بدعوة موجهة للكشف عَنْ هَذِهِ الفترة كَمَا فعلت مجلة الهلال ، وأثمرت كتابا شارك فِيهِ العديد من الكتاب يحمل هَذَا الاسم (التكوين) ، وَعَلَى نَحْوَ مماثل دَعَتْ مجلة العربي الكويتية عَدَدًا من كتّابها وأثمر كتابا يحمل اسم أكثر دلالة لما نحن بصدده هُوَ(  مرفأ الذاكرة ) . أقول اتجهوا إِلَى فترة التكوين سَوَاء أكان هَذَا الحديث عَنْ طَرِيقِ دعوة للكتابة أم رغبة مباشرة من الكُتّاب إِلَى الكشف عَنْ شذرات من ذواتهم .

   وساعدت النظم الاجتماعية ووسائل التواصل الحديثة مثل : تويتر والفايسبوك عَلَى إعلاء الأشكال الوجيزة جماليا . وَهُوَ إعلاء ولّد نصّيا – فِي مُسْتَوَى السرد – مَا يرقى إِلَى مُسْتَوَى النوع الأدبي أَوْ يقترب مِنْهُ عَلَى نَحْوَ مَا نرى فِي (القصة الومضة). وَلَمْ يكن غريبا – فِي هَذَا السياق – أن يستثمر كتاب السرد السيري هَذِهِ الأشكال الوجيزة ، ولعل أحدث مَا ظهر من هَذَا الإنتاج مَا نشره الدكتور حسن النعمي تحت عنوان جامع (كُنْت هُنَاكَ –سرديات السيرة المبكرة).

  وَلَمْ يفارق إنتاج النعمي السياق الاجتماعي العام الَّذِي يستحضر دوما الحياة الأُوْلَى ، كأنها مصدر حنين دائم الحضور . وَهُوَ مَا نلحظه – فِي الأغلب – فِي مختلف الفنون ؛ فالشاعر يستحضر المحبوب عَلَى شكل فريد ، والمغني يشجي مستمعيه بِهَذَا عَلَى نَحْوَ مَا يصدح طلال مداح ومحمد عبده ، ولعل دراسة تنهض بِذَلِكَ تعالج الفنون من زوايا مختلفة : أدبية وبصرية وأدائية وفنون الميديا. والحاضر – فِي السياق الاجتماعي – يتجاوز النقلة المفاجئة أَوْ مَا يصطلح عَلَى تسميته بالطفرة ، ويتجلى بوصفه مثيرا لاستدعاء الماضي فِي ثوب رومانسي يدرك صعوبات الماضي وَفِي الوقت نفسه يراها جنة مفقودة . وَهُوَ مَا عبر عَنْهُ النعمي فِي عنوان مجموعته القصصية الأُوْلَى (زمن العشق الصاخب) أَوْ فِي إهداء المجموعة (إِلَى إنسان قريتي ..فِي زمنه الأول ..يوم كَانَت اللقمة ..أسطورة متمردة).

   وَإِذَا كَانَ الفرد لَا يتجاوز الأبنية العقلية فِي المجتمع أَوْ بمعنى آخر لَا يكتب خارج إطار الكل دَاخِل المرحلة الاجتماعية والثقافية إلَّا أن الإبداع مِنْ شَأْنِهِ أن يجعل لصاحبه سياقات خاصة لَا تنفصل عَنْ السياق الاجتماعي العام لكنها تميزه عَنْ غيره وتكون وسما خاصا عَلَيْهِ .  وهذا مَا نبحثه فِي الفقرات القادمة.

-2-

    نشر حسن النعمي عبر حساباته عَلَى مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر – فايسبوك – أنستجرام) وَفِي قناته الخَاصَّة شذرات من السيرة المبكرة فِي تسلسل رقمي يبدأ من (1) إِلَى (30) فِي شهر رمضان المبارك لعام 1443هــ. ويمثل كل رقم وحدة نصية مُسْتَقِلَّة . وَقَد بدا لنا أن السياق العام لاتخاذ الشكل الوجيز قالبا فنيا للسرد السيري يَتَجَلَّى وراءه سياق خاص لسرديات النعمي ؛ من سماته :

  1. أن مخزون الذاكرة للأحداث المبكرة مهما اتسع يظل محدودا ، وَهُوَ أمر يماثل (الأيام المعدودات) فِي الشهر الفضيل .
  2. أن الأشكال الوجيزة هِيَ السمة العامة لإبداع حسن النعمي ؛ فقد كتب القصة القصيرة ، وأخرج ثلاث مجموعات قصصية ( زمن العشق الصاخب 1984م– آخر مَا جاء فِي التأويل القروي 1987م– حدّث كثيب قال1999م) . وأصدر سرديات العزلة فِي شكل غلب عَلَيْهِ اليوميات الَّتِي تجمع بَيْنَ المرجعي والتخييلي فِي (قيس يمكن سرديات العزلة 2020م) . وآخر مَا صدر لَهُ من إنتاج (مَا وراء الباب 2021م) وَهُوَ عمل ينتمي إِلَى القصة الومضة أَوْ القصة القصيرة جدا. وَلَمْ تر رواية لَهُ النور . وَكُل مَا سبق  يتسق مَعَ ظهور هَذَا السرد السيري فِي ثوب الشكل الوجيز .
  3. أن إقرارنا أن البناء الاجتماعي يَتَجَلَّى فِي (السرديات المبكرة – أَوْ مَا استدعته الذاكرة ) وَأَن لَهُ الغلبة عَلَى الوعي – تأثيرا – فِي هَذِهِ المرحلة المبكرة . أقول إنّ هَذَا لَا يجعلنا نتناسى أن المنتج النهائي (السرد السيري الكاشف عَنْ البناء الاجتماعي) هُوَ نتاج الوعي ؛ أي إن الوعي هُنَا فِي حالة تفاعل مَعَ البناء الاجتماعي . وَقَد كشف لنا هَذَا السرد المبكر عَنْ السعي الحثيث للكاتب فِي سبيل نيل لقب شاعر . يقول فِي السردية رقم (11) :

” سمعت أن من يُرِيدُ أن يصبح شاعرا فعليه أن يشرب من أول السيل ، حدثت أبي فتبسم ، لَكِنِّي قلت لَهُ إن جاء السيل وأنا نائم فأوقظني ، نمت وبيت العزم عَلَى ذَلِكَ، لكن السيل لَمْ يأت ، وَلَمْ أَصْبَحَ شاعرا”.

    والنعمي لاشك يقرض الشعر ، ولكنه ليس من المقدمين فِي هَذَا المجال عِنْدَ أهل الاختصاص ، ولكنه لَمْ يفارق الشعر – الحلم من جهتين :

الأولى : أَنَّهُ يميل إِلَى شعرية القص ، وَهِيَ سمة مائزة لأعماله القصصية ، لَا تحتاج إِلَى تدليل ، ونكتفي مِنْهَا هُنَا بمثال من قصة (تجليات اللحظة الأخيرة)  :

” الآن جسدها يستلقي فِي ذاكرتك ..دمها المتخثر ينهش فِي عقلك ..وعالمك الخارجي يوغل فِي المتاهة ..أنت لَا تعي شيئا .. لَا تشعر بالركض فَوْقَ وجهك ..كَانَ شيطان الأرض يحفر عينيك بخنجر الخيانة”.[الأعمال القصصية/96]

الجهة الأخرى : أن مدار إبداعه – وَهُوَ فِيهِ مقدم وصاحب ممارسة عملية وفكر نظري ذو شأن – عَلَى هَذِهِ الأشكال الوجيزة الَّتِي تتخذ من (التكثيف) تقنية فنية لَهَا ، وَهِيَ التقنية الَّتِي تلتقي فِيهَا مَعَ الشعر.

    وَقَد يَبْدُو طريفا أن أشير إِلَى نص تجريبي ختم بِهِ حسن النعمي مجموعته الثَّـالِثَة جاء النص موسوما بــ ( حدّثني كثيب قَالَ) فِي تناص مَعَ عنوان المجموعة مضافا إِلَيْهِ ضمير الملكية . وَهِيَ المجموعة الَّتِي نشر فِيهَا إحْدَى عشرة قصة قصيرة مِنْهَا :(الجنوبي –رحيل الأستاذ بخيت – حدث كثيب قَالَ – رهوان وبائع الجرائد) ثُمَّ صاغ من مجموع هَذِهِ العناوين / القصص الأربعة نصه التجريبي فِي صورة ، وإن خلت من الوزن الشعري ، لَا تخلو من الصورة الكلامية المعبأة بخصائص الشعر . وسأضرب بِذَلِكَ مثالا من النص التجريبي هَذَا المقطع : 

” وهذا بخيتٌ

حين لَمْ يحسن الصمتَ

غيبوا صوته

يومها جاءت الأبوابُ تحمل أقفالَها

ورجالها ،

وتوزع الحيطان ذاكرةً

وتعاويذ فِي وَجْهِ الطفولة” [ الأعمال القصصية . ص195-196]

هُنَا يعلو صوت الحرية ويواجه هَذَا الصوت بالتكميم لكن البشارة/ المستقبل/ الأطفال تُلوّح بالأماني . وَهُوَ خلاصة مَا أراد أن يقوله فِي قصة (رحيل الأستاذ بخيت) الَّتِي نقتطع مِنْهَا قوله : ” ثَلاثُونَ سنة رافق فِيهَا الطباشير. طوى عَلَيْهَا من شغافه دم الحب . الطباشير الَّتِي رسم بِهَا شكل الحقيقة […] كَانَ يرتدي أعين الصبية . يملي عَلَيْهِمْ لِمَاذَا أَصْبَحَ للشمس عين واحدة؟ يذكر أَنَّهُ عِنْدَمَا قَالَ عبارته ذات المذاق الغريب :

– أيها الصبية ، هل تعرفون لِمَاذَا يوجد لكم أصابع؟

– قالوا:” لاعلم لنا إلَّا مَا علمتنا”، وَلَكِن ربما نأكل بِهَا حينا ، وحينا نقضي بِهَا حوائج أُخْرَى.

– قَالَ: لَمْ تبتعدوا ، وَلَمْ تصيبوا من غايتي ، أصابعكم خناجر.

وصعد أحد الصبية ، ورسم كفا بخناجر ، صفّق بقية الصبية ، وحياه الأستاذ ، وعاقبه مسئول الجزاءات” [ الأعمال القصصية . ص155-156]

يجمع بَيْنَ النصين وظيفة واحدة مواجهة الاغتراب الوجودي فِي نمط من أنماطه الحرية ، وَقَد ناسبها فِي مُسْتَوَى الماهية شعرية القص ، وَلَكِن الأُوْلَى صورة كلامية و”المادة الَّتِي تستخدمها الصورة الكلامية هِيَ المادة نفسها الَّتِي تستخدمها اللوحة الفنية والهدف فِيهَا واحد وَهُوَ التجسيد الحسي العاطفي للمعرفة ، وَلَكِن اللوحة تستحضر الصورة عَنْ طَرِيقِ الأصباغ ، أَمَّا الصورة الكلامية فتستحضرها عَنْ طَرِيقِ اللغة”.[انظر/عبدالرحيم الكردي،البنية السردية للقصة القصيرة ص85] أَمَّا النص الثاني فقد مال إِلَى تعددية الأصوات وأسلوب التلميح .

  وَهُوَ مَا يجعلنا ننتهي مطمئنين أن الغاية الجمالية الواحدة عِنْدَ حسن النعمي تمارس فعليا فِي ماهيات نصية متعددة ، وهذه الممارسة تعني أن التشكيل الجمالي هُنَا صناعة ؛ بالمعنى الَّذِي قدمناه. وما انتهينا إِلَيْهِ يقودنا إِلَى مدار هَذَا المقال؛ أعني الصياغة الجمالية للسرديات المبكرة بوصفها صورة من صور الوعي الَّذِي هُوَ نتاج تفاعل الذات المبدعة مَعَ الواقع الاجتماعي فِي سياقاته العامة والخاصة. وَقَد تبين لنا أن الدكتور حسن النعمي صاغ غايته فِي التعبير عَنْ سرده السيري فِي شكلين :

  • الشكل الأول : هُوَ الشهادة الأدبية (فِي زي السيرة الذاتية) .
  • الثاني : هِيَ الأشكال الوجيزة الَّتِي نشرها بعنوان (كُنْت هُنَاكَ).

   ويلتقي الشكلان فِي الغاية وَهِيَ الكشف عَنْ روافد صناعة الوعي فِي تجربة حسن النعمي ، وَهِيَ روافد تتعلق بالبيئة الاجتماعية : الطبيعة والصراع عَلَى لقمة العيش ونظم المعرفة وَالتَعَلُّمِ.  ويختلفان فِي :

– أن الأُوْلَى امتدت عمريا لِتَشْمَل التجربة كاملة ، والثَّـانِيَة اقتصرت عَلَى الفترة المبكرة مِنْ العُمْرِ .

– أن الأُوْلَى صاغها – نصيا – مرتين بينهما اختلافات قليلة للغاية فِي شكل مقال ذِي طابع استرسالي يكشف عَنْ وقائع اجتماعية ويبحث لَهَا عَنْ علل ويعيد تقييمها من منظور الحاضر ، والثَّـانِيَة يقدمها فِي صور وجيزة أشبه مَا تكون – حجما-  بالقصة القصيرة جدا .

– أن الأُوْلَى حملت عنوانين مختلفين ؛ فِي مجلة الآطام (القرية بَيْنَ الواقع والخيال –الحكاية الَّتِي لَمْ تروها جدتي) ، وَفِي مجلة الجوبة عنونت بــ (حديث الذات ..حديث الخيال : كلمات فِي تجربتي القصصية). والعنوانان دالان عَلَى مَا قدمنا من التفاعل الإيجابي بَيْنَ الفرد والأبنية الاجتماعية ومنتوجه النهائي هُوَ (صناعة الوعي) ولكنه وعي لَهُ بعد تخييلي ، وَهُوَ مَا يبرز منظور الحاضر. أَمَّا الثَّـانِيَة فقد جمع نصوصها عنوان جامع هُوَ (كُنْتُ هُنَاكَ) ولعل فِي بروز صيغ المتكلم (تاء الفاعل)  مَعَ الظرف الَّذِي يشير إِلَى البعيد مَا يبين أن  مسافة تفصل بَيْنَ (الأنا) و(المكان) رشحت – جماليا – منظور الماضي .

     ونضرب نماذج للتدليل عَلَى هَذِهِ الفوارق بِهَذَا المقطع من (حديث الذات) ، يقول النعمي:

 “حين بدأت خطواتي الأُوْلَى فِي المدرسة وجدت صعوبة فِي التأقلم. فقد كَانَت الحكايات مخبأة فِي ذاكرتي، كُنْت أحسها تتثنى بَيْنَ دفاتري وكتبي، كُنْت أراها تتقافز أَمَامَ قلمي. كُنْت أهرب بعد الحصة الأُوْلَى وأذهب إِلَى جدتي حيت كَانَت تجلس، وَهُوَ مَا جعل العصا تتلوى عَلَى ظهري. تعلمت بعدها كَيْفَ أوفق بَيْنَ حكايات جدتي وعالمي الجديد.

كبرت وظلت الحكايات الَّتِي خبأتها فِي ذاكرتي تشدني للطفولة والقرية وجدتي. ولعل ولعي  ‏بالكتابة بعد ذَلِكَ بسنوات يعود ‏لرغبة دفينة فِي إعادة القرية الَّتِي عشتها عِنْدَمَا كُنْت طفلاً. كُنْت أرى القرية تهرب من حكايات جدتي نَحْوَ عالم لَمْ تستطع التصالح مَعَهُ. فقد هجر الأبناء أرضهم وهاجروا وراء وهم الوظيفة، كَمَا تقاعد الكبار وأسلموا كفاحهم للنسيان. أَمَّا النساء، فقد سقطن سهواً، خلف ظلمة الجدران المعتمة”. [ حديث الذات . ص10]

    يوازن النعمي فِي هَذَا النص بَيْنَ حكايات الجدة ،كَمَا تلقاها ، وبين مخزون حكاياتها الباقي فِي ذاكرته وكيف شكلت وعيه ، وكيف صنع – عبر هَذَا الوعي – عالما رمزيا موازيا لِهَذَا الواقع. ولنتأمل هَذَا العالم الرمزي فِي جانب من العنوانين (حديث الخيال / أَوْ /القرية الَّتِي لَمْ تروها جدتي) ، ولنفسره  بشيء  من إنتاجه فِي القصة الومضة ؛ يقول فِي ( حكاية أخيرة) : “رأيتُ جدتي جالسة عَلَى صخرة تنتظرُ عودتي بسلة معبأة بالحكايات ، ولما عدتُ ، نظرتْ إليَّ ، فرأتْ سلتي خاوية ، لَمْ تقل شيئا وزرعتْ حكايتها الأخيرة فِي صدري وتوارت!!” . [ما وراء الباب  ص 111]

   ويتجلى السرد السيري فِي ممارسة عملية وفكر نظري يتضافران فِي جديلة واحدة عمادها الوعي أَوْ الحس الإنساني بالزمن ؛ بالمعنى الَّذِي قدمنا حَيْتُ تلاقي الذاكرة بالهوية فِي زمن ليس قديما وَلَيْسَ جديدا ولكنه زمن يوازي رمزيا الواقع ، يقول النعمي : “إن كَانَ هُنَاكَ جاحد فهو أنا حَيْتُ هجرت جدتي وحكاياتها لعالم بلا ذاكرة . هُنَاكَ كَانَت الأرض باردة الوجوه والقلوب […] إذن ماذا نَحْتَاجُ لإنقاذ خيال رومانسي من ناحية ، وواقع جامح من ناحية أُخْرَى . نَحْتَاجُ أن نربي ذاكرتنا عَلَى النضج ، وَأَن نؤنسن واقعنا حَتَّى نزيل عَنْهُ توحشه وقسوته.السؤال الَّذِي أرقني هُوَ كَيْفَ يمكن أن نتعايش مَعَ ذاكرة مثقلة بالحنين والشوق القديم، وبين واقع يغتال ذاكرتنا . لَمْ أجد جوابا إلَّا الأدب السردي . فهو الذاكرة لمن لَا ذاكرة لَهُ . وَهُوَ الخيال لمن أقعد الواقع خياله […] لكن الكتابة هِيَ ذاكرة خالدة ، مِنْهَا بدأنا طفولتنا ، وبها نمتد مَعَ الزمن إِلَى أقصى مَدَى ” [ القرية بين الواقع والخيال . ص8]

   فِي المقابل فِي نصه الجامع (كُنْت هُنَاكَ) يقدم لنا هَذَا المضمون الَّذِي سقناه من (حديث الذات)  فِي صياغة مغايرة لَا تفسر وَلَا تعلل – فِي أغلبها – لكنها تكشف عَنْ بكارة الدهشة وأولية التشكُّل من منظور الطفل ، وَقَد تمتد زمنيا لكن الدهشة وبكارة التلقي هُمَا الأساس يقول فِي السردية رقم (3) ، وَهِيَ المعبرة عَنْ هَذَا الامتداد / القابع فِي منظور الماضي :

   “كَانَ اليوم الأول فِي المدرسة غريبا علي ، ليس لأني لَمْ أحب المدرسة ، لكن لأنني ودّعت عالم جدتي ، كُنْت ألقي رأسي فِي حضنها وأنظر فِي تفاصيل وجهها وَهِيَ تسرد حكايات الوافدين الغرباء إِلَى قريتنا  ، كُنْت أشعر بجنونهم وعبقريتهم وَهِيَ تحكي […] كُنْت أشعر أن جدتي تخلق عالما لَا تريدني أن أغادره . طلبتها قبل موتها أن أضع رأسي فِي حضنها لتحكي لِي كَمَا كُنْت صَغِيرًا ، فقالت : عشت زمنا رأيت فِيهِ حكايات أكثر غرابة مِمَّا كُنْت أقص عليك يا ولدي”

  وإن تجاوزت الصياغة ذَلِكَ وَكَشَفَتْ عَنْ الوعي فِي الزمن الحاضر فإننا نجد هَذَا الوعي يحتفظ بسماته الخَاصَّة فِي الماضي ؛ وِفْقًا لما أسماه السارد بالذاكرة الحية ، عَلَى نَحْوَ مَا سرد فِي السردية (1): ” بَعْدَ أَنْ ألبستنا جدتي ملابس داكنة حَتَّى لَا ترانا الطائرات المحلقة ، جلست عَلَى عتبة البيت تراقب السماء وَلَا تسمح لنا بالخروج إلَّا إِذَا حل الظلام ، لَا أعرف كم بقينا فِي هَذَا المعتزل ، لكنه ظل ذاكرة حية أستدعيها كلما سمعت أن حربا قَامَتْ فِي أي بقعة من الكرة الأرضية” .  وَعَلَى نَحْوَ مَا سرد فِي السردية (10): حول معنى السيارة فِي قوله تعالى (يلتقطه بعض السيارة. ويمكن أن نرى ذَلِكَ فِي السردية (7) : (…وَمِنْ يومها لَمْ أعد أرى البحر إلَّا بعيون شرف) .

مِمَّا سبق يتضح لنا أن التشكيل الجمالي هُوَ وسيلة الكاتب لِتَحْقِيقِ الوظائف الَّتِي يرتأيها ، وَأَن تنوع طرائق التشكيل يَعْنِي أن لِكُلِّ تشكيل إجراءات خاصة فِي المُسْتَوَى النصي . وَهُوَ مَا يجعلنا نروم البحث عَنْهَا فِي الفقرات القادمة.

-3-

شيّد حسن النعمي بناءه السردي(كُنْتُ هُنَاكَ) – المنشور فِي رمضان – عبر ثَلاثِينَ لوحة نصية . تستقل فِيهَا كل لوحة بذاتها ثُمَّ تنتظم جميعها فِي عقد نصي واحد . وَقَد نتج عَنْ هَذَا الإجراء مجموعة من السمات السردية :

الأُوْلَى : غلب عَلَى هَذِهِ اللوحات الصورة القلمية بتعبير يحيى حقي أَوْ الصورة الكلامية بتعبير عبدالرحيم الكردي ، وهذه الصورة تتميز بأنها تستطيع رسم عدة صور لشخصية واحدة أَوْ عدة مناظر ، وَفِي كل مِنْهَا انطباع معين [1]. يمكن أن نتلمسه فِي الصور الَّتِي رسمها للمرأة المسنة (شرف) فِي السرديات رقم (7،8،9) أَوْ لكبير القرية فِي (16-26) وعدة مناظر لصورة المعلم  فِي القرية دَاخِل المدرسة وخارجها  (4،13،21،25) .

الثَّـانِيَة : أَنَّهُ ترتب عَلَى بروز فكرة  الانطباع الخاص الحضور الكثيف  لمعجم الأفعال الشعورية الَّتِي حشدها السارد للتعبير عَنْ الخوف والحب والرجاء والإدراك ، / انظر السردية رقم 28.

الثَّـالِثَة : أن النعمي فصل نظريا بَيْنَ حضور المتكلم وَبعْدَ المكان (كُنْتُ/هُنَاكَ) لكن اتخاذ اللوحة القلمية التشكيلية سهل عملية الحركة ؛ أي إن الحركة هُنَا دَاخِل اللوحة هِيَ نقطة التقاء الذاكرة بالهوية ، وهذا ملمح عام يمكن تلمسه فِي كل اللوحات ، ويمكن مراجعة اللوحة السابقة. وَهُوَ مَا جعل الصورة زمكانية بامتياز؛ أي لَهَا حقل بصري واضح،يقول : “نقف دائما مرعوبين أَمَامَ مراقب المدرسة . رجل طويل كأنه شجرة انفلتت من تربتها ، حاجباه مرفوعان مِمَّا جعل ملامحه لأطفال مثلنا كائنا غريبا ، وَإِذَا حمل عصاه دب الرعب فِي نفوسنا ، مَا زلت أذكر هلع طالب ضربه المراقب ؛ لِأَنَّ بقرة أكلت كتاب العلوم الَّذِي فِي كَانَ فِي عهدته/ سردية21)

الرَّابِعَة : أن بكارة الدهشة والتلقي الَّتِي حافظ عَلَيْهَا النعمي ولّد مَا يسميه تودروف (الرؤية من الخارج ) أي إن معرفة الراوي بدت دوما أقل من معرفة الشخصيات .انظر عَلَى سبيل التمثيل/ السردية رقم 23.

الخَامِسَة : عَلَى مُسْتَوَى الإيقاع السردي وظف (المشهد) وَهُوَ أمر يتناسب تشكيليا مَعَ اللوحات المنفصلة رقميا والمتصلة فِي آن. وَهُوَ ملمح عام فِي كل اللوحات.

السَّـادِسَة : أن ذاكرة الماضي فِي اللوحة النصية تبدو للوهلة الأُوْلَى أشبه بالتابلوه قبل اشتغالها بالحركة ، وَهُوَ ملمح مِنْ شَأْنِهِ أن يوظف (القص المؤلف) ؛ أي القصة المكررة الَّتِي تروى مرة واحدة ، عَلَى نَحْوَ : (شرف تزوجت مرات ، وأحبت واحدا وَلَمْ تتزوجه ، كَانَت تنشد فِيهِ شعرا ، وَكَانَ بعض أزواجها يطلبونها الإنشاد مِمَّا قالت فِيهِ ، فتسبهم وتسب حظها العاثر/ سردية8).

السَّّابِعَة : أن النظم الثقافية تقابلها نَظَّمَ مضادة كأنها فوضى قياسا إِلَيْهَا . وَكُل بيئة اجتماعية تولد مَا تراه نظاما وما تسمه بالفوضى . وأتصور أن النعمي من زاوية الرؤية من الخارج أبرز مصدرين من مصادر المعرفة المبكرة : النظام الشفاهي القائم عَلَى السماع والتأويل الذاتي ، وصورته الماثلة حكايات الجدة وتأويل أهل القرية للأحداث ( انظر علاقة طول شعر بالفتاة بدعوة ليلة القدر / السردية رقم 24) وتأويل سلوك السيدة الَّتِي تردد عبارة (أكله الذئب / السردية رقم 22) وَهُوَ مَا يجعل لَهُ خصائص عامة ترتد إِلَى منبع واحد فِي ممارسات عملية متعددة. فِي المقابل يجابه ذَلِكَ مصدر معرفي آخر هُوَ (التَّعْلِيم النظامي فِي المدارس) يواجه بقسوة – القسوة هُنَا فِي سياق الدهشة الأُوْلَى – خرق نظامه بتأويلات لَا تتسق مَعَ أبنيته . وَقَد أنضج النظام الأول البعد الفردي للمبدع الَّذِي أغرته الحكايات وفتنته التأويلات المتعددة ، وجاهد مَعَ النظام الثاني حَتَّى عقد مَعَهُ مصالحة وظفها لخدمة الثاني .

    وهذا الصراع هُوَ مَا ولّد عِنْدَ النعمي نمط الكتابة السردية الَّتِي تجمع بَيْنَ الشفاهي والكتابي ، وَلَيْسَ هَذَا مَا دار حديثنا ، ولكننا نتبين صور هَذَا الصراع فِي سردياته المبكرة الَّتِي يرويها من موقع الراوي المشارك أَوْ الراوي المشاهد فِي السرديات رقم ( 3، 13، 16، 21،  25، 26) ، وَهُوَ يحمل الطابع الغرائبي – أؤكد غرائبي فِي ضوء الدهشة الأُوْلَى – وسأمثل هُنَا بصورة کَبِير القرية الَّذِي انتظم فِي التَّعْلِيم النظامي : ” صارت المدرسة الليلية حديث أهل القرية بَعْدَ أَنْ رفض کَبِير القرية أن يجلس فِي الصفوف الخلفية ، بَلْ زاد ألا يجلس غيره فِي الصف الأول ، وعندما طلب مِنْهُ المدير أن يترك عصاه خارج الصف احتج ، وعندما ضحك المعلم من إجابته حول مَا يأكله الدجاج غضب ، وأمر الجميع بالخروج فخرجوا وسط رجاءات المعلم أن يبقوا /سردية16) . ولعل فِي صورة مراقب المدرسة الَّتِي ذكرت سابقا فِي السمة الثَّـالِثَة مَا  يُعَيَّن عَلَى تمثيل  مَا نرومه .

الثَّـامِنَة : أن شحذ الذاكرة فِي ظَرْفِ زمني ذِي طابع طقسي ( شهر رمضان المعظم وما يتلوه من عيد) ولّد عَنْ طَرِيقِ الإيحاء الذاتي عَدَدًا من اللوحات المرتبطة بِهِ قديما ( 10-12 – 19- 23-  24)، ولكنه حافظ – وَهُوَ يستدعيها – عَلَى السمات العامة الَّتِي بينتها . وَهُوَ مَا نتبينه بوضوح مثلا إِذَا قارنا بَيْنَ كتابته فِي سرديات العزلة ؛ أعني فِي الجانب المرجعي مِنْهُ حول مائدة الإفطار وعقد مقارنة بَيْنَ تجمع العائلة قديما حول مائدة الإفطار وتجمعها حديثا ، والآذان والمؤذن جده (راجع سرديات العزلة رقم22)[2]. وبين هَذِهِ الصورة التجريدية : (كَانَت ساعة الإفطار ساعة مميزة ، يحمل الرجال خبزهم ، وجرار الماء ، ويذهبون إِلَى باحة المسجد ، ينتظرون رفع الآذان ليبلوا جفاف عروقهم ، وَفِي مشهد تفوح مِنْهُ رائحة الخبز ، ويرفع الأذان ، ويبدؤون تقسيم كسر الخبز ، يتساءل أحدهم عما يفضل المؤذن ، فيدس بَيْنَ التكبيرات أمنيته : (دخنة ،دخنة) السردية رقم19″

  يمكن أن نقول فِي نهاية المطاف إن حسن النعمي استطاع أن يكون فِي المكان / الجنة المفقودة ، وبمهارة المبدع وخبرة المنظر سيطر عَلَى مصادر الوعي المبكر ، وشكّلَهَا لنا جماليا فِي ثَلاثِينَ لوحة نصية .


[1] ) البنية السردية للقصة القصيرة . ص85
[2] ) قيس يمكن سرديات العزلة ، دار سطور عربية ، جدة ،1442هــ . ص51

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى